Skip to main content

لماذا نشتري ما لا نلبس؟ الملابس كمرآة لهويتنا النفسية والاجتماعية

الكاتب



د. أحلام ناصر

 

تقول د. أحلام ناصر يُصبح الشراء شكلًا من أشكال الدفاع الذاتي، لكي لا تبدو أقل من الآخرين، أو لكي تحافظ على صورتك في عيونهم. بينما في بيئات أخرى، تُقدَّر البساطة والانضباط، ويُربّى الأفراد على أن “الإنسان بأخلاقه لا بملابسه”، وهو ما يُفسّر ميل البعض للاعتدال وعدم الإغراق في الموضة.

وتضيف الدكتورة احلام في مقالها :

من منا لم يفتح خزانة ملابسه يومًا ليجد قطعًا لم تُستعمل سوى مرة واحدة… وربما لم يتم ارتدائها أبدًا؟
وربما تساءل في لحظة صدق: لماذا اشتريتها؟ ولماذا أكرر السلوك ذاته في كل موسم؟
الجواب ليس فقط في الأسواق أو التخفيضات أو ضغط المناسبات، بل في داخلنا نحن أيضا.
فاللباس، منذ فجر الحضارة، لم يكن مجرد ستر للجسد، بل تحوّل مع الزمن إلى لغة رمزية تعبّر عن الهوية، والمكانة، والانتماء. وهنا تظهر الفروقات، لماذا يشتري البعض بوفرة، فيما يكتفي آخرون بالحد الأدنى؟
الجواب يفسره علم النفس والاجتماع… وفي نظرتنا لأنفسنا والعالم من حولنا.
بين الحاجة والهوية، بحسب نظرية الحاجات الإنسانية لأبراهام ماسلو، لا يتوقف الإنسان عند إشباع حاجاته البيولوجية، بل يسعى لما هو أعمق مثل القبول، والتقدير، وتحقيق الذات. في هذا الإطار، تصبح الملابس ليست فقط لحمايتنا من البرد أو إرضاء الذوق، بل وسيلة للتعبير عن الذات، وطلب الاحترام، والشعور بالانتماء. حين تشتري امرأة فستانًا لمناسبة اجتماعية، أو يحرص رجل على اقتناء حذاء أنيق باهظ الثمن، فهما في الواقع لا يشتريان القماش… بل الصورة، والمكانة، والانطباع الذي يتركونه.
الهوية الاجتماعية… عندما نرتدي من أجل أن نُرى
وفقًا لـ نظرية الهوية الاجتماعية يُشكّل الفرد جزءًا من صورته الذاتية إليها أو يطمح للانتماء لها. وهنا تصبح الموضة أداة ترميزية، نرتدي ما يشبه المجموعة التي ننتمي اليها، سواء كانت مجموعة عمرية، فئة مهنية، طبقة اجتماعية، أو جمهورًا رقميًا على إنستغرام وتيك توك. المراهق يشتري ليشبه أقرانه، والموظفة الشابة تشتري لتعكس صورة مهنية، والمؤثر على السوشال ميديا يشتري ليُبقي صورته حديثةـ وتتوافق مع محتواه او ما يقوم بالتسويق له. وهكذا، يتجاوز اللباس الجسد ليُلبّي حاجة داخلية للانتماء والقبول.

السعادة الفورية… عندما يتحول الشراء إلى مكافأة نفسية
لكن ليس الانتماء وحده هو الدافع، بل أيضًا الشعور بالسعادة، تُظهر أبحاث علم النفس السلوكي أن عملية الشراء تُفعّل في الدماغ هرمون الدوبامين، وهو ذاته المرتبط بالمكافأة والشعور بالمتعة. ما يعني أن بعض الأفراد يُعيدون تجربة الشراء لا لأنهم بحاجة فعلًا، بل لأنهم يبحثون عن لحظة نشوة عابرة تعوّض قلقًا داخليًا، أو شعورًا بالملل، أو حتى حزنًا لا يُفصح عنه. هنا نقترب من ما يُعرف بـ “الشراء القهري” أو “إدمان التسوق”، وهي حالة نفسية حقيقية، لا تقل خطرًا عن غيرها من أنماط التعويض السلوكي.
البيئة والثقافة: حين يصبح المظهر معيارًا للقيمة
في بعض المجتمعات، يُصبح المظهر هو المعيار غير المعلن لقياس الإنسان، كيف تلبس؟، وليس ماذا تفعل؟ أو ماذا تنجز؟. وهكذا، يُصبح الشراء شكلًا من أشكال الدفاع الذاتي، لكي لا تبدو أقل من الآخرين، أو لكي تحافظ على صورتك في عيونهم. بينما في بيئات أخرى، تُقدَّر البساطة والانضباط، ويُربّى الأفراد على أن “الإنسان بأخلاقه لا بملابسه”، وهو ما يُفسّر ميل البعض للاعتدال وعدم الإغراق في الموضة.
القيم التي نحملها منذ الطفولة تُعيد تشكيل سلوكنا الاستهلاكي، حتى ونحن كبار.
الفجوة بين الأزواج: عقلانية الرجل وعاطفة المرأة؟
في السياق الأسري، كثيرًا ما تشتعل الخلافات بين الأزواج بسبب كثرة الشراء، لا سيما في المناسبات.
وهنا تلعب الأدوار الاجتماعية دورًا محوريًا، الرجل، وفق التوقع المجتمعي، يُتوقع منه أن يُخطط ويحمي الموارد، بينما المرأة، تُمنح دور الحفاظ على الصورة الاجتماعية للأسرة. لذا، يركز الرجل على التكاليف، وتُركّز المرأة على المعنى والمظهر والانطباع. ولا أحد مخطئ… إنما يحتاجان فقط إلى فهم اختلاف المنطلقات والتوافق حولها.
في الختام، نشتري أكثر مما نلبس… حين نلبس أكثر مما نحن عليه، السؤال ليس هل نحتاج إلى هذه الملابس؟ بل لماذا نعتقد أننا نحتاجها؟ الوعي بالاستهلاك لا يبدأ من قائمة المشتريات، بل من مرآة الذات، هل أشتري لأعبّر عن من أنا؟ أم لأخفي من لست عليه؟ هل أستهلك لأحتفل بذاتي؟ أم لأعوّض نقصًا فيها؟
حين نُدرك دوافعنا النفسية والاجتماعية، يصبح خيار الشراء قرارًا حرًا… لا استجابة عمياء لمؤثر خارجي أو فراغ داخلي.
.

بث مباشر SEYAHA FM 102.3 يبث الآن