Skip to main content

الدكتور صالح الشادي يكتب :

محمد_الثبيتي: شِعرٌ يرقى فوق تراب الزمن.

في أبريل 2021، لم تكتفِ الطائف بتسمية شارعٍ باسم الشاعر *محمد الثبيتي*، بل أهدت السماءَ نجمةً جديدة.. تلك التي أضاءها الأمير الغالي *خالد الفيصل*حين حوَّل ذكرى الشاعر إلى طريقٍ يسير عليه المحبون. كان التكريمُ رسالةً مفادها أن الشعراء لا يرحلون؛ إنما يتحولون إلى كلماتٍ تهمس بالأبدية.

قبل أن أعرفه شاعراً، عرفته إنساناً. قرأتُ عنه عن ذاته في الصحف .. ملهم يعيش في واحة من الكتب، ينسج قصائده من صمت تلك الصحاري التي ما برحت تعطر ذاكرتها بطيبها ورحابتها .
ثم جاء اليوم الذي التقيتُه فيه في مكة، وهو جالساً بين رفوف مكتبته كوال ٍ على مملكة الحروف.
كان حديثه نديّاً كندى الفجر، وصوته يحمل نغمةَ الحكايات القديمة. وقد صار بيتُه محطتي الروحية كلما اشتدَّ بي الشوق إلى مكة، تلك المدينة التي صاغت منه شاعراً وإنساناً.

في مساء يوم من التسعينات، وبينما كنتُ أتحدث ضيفا من لندن في برنامج “ليلة خميس” ام بي سي مع الإعلامي الراحل الصديق *سعود الدوسري*، فُوجِئتُ بمداخلةٍ اسعدتني ..
صوتٌ هادئ يخرج من أثير المذياع:
*عندك كنوزٌ مدفونة.. أطلقها! *.
كان هو *الثبيتي*، الرجل الذي يُهاب صمته، ويُحترم زهده في الأضواء.
لم يكن مجرد تشجيع، بل هديةٌ من شاعرٍ يعرف أن الكلمة الحقيقية لا تُختَزل في الأضواء، بل في صدقها. تلك اللحظة علّمتني أن العظماء يمنحونك الثقة قبل النصيحة.

كُنا نتحادث ساعاتٍ عبر الهاتف، وكأننا نخشى أن تسرقَنا دقائق الزمن. حديثُه كان دوماً عن الجمال: جمال القصيدة، جمال الصمت، حتى جمال الظل الواقع على جدارٍ قديم.
ورغم أن رياح النقد العاتية كادت تُطيح بمعظم شعراء الحداثة، ظلَّ الثبيتي واقفاً كالنخلة.. جذورُه في الأرض، وقمةُ رأسه في السماء. كان يردُّ على اتهامات خصومه بتلقائية الطفل: “لو قرأوا القصيدة بقلوبهم لا بعيونهم، لفهموا”.

لم تكتب “بوابة الريح” لتُقرأ، بل لتُسمَع كصرخةِ مبدعٍ يخاف أن يسرق الزمنُ إلهامَه. قصيدته التي حوّلها *محمد عبده* إلى أغنيةٍ خالدة، كانت أشبه بمذكراتٍ سرية:
– هنا.. قلقُه الوجودي.
– هناك.. حنينُه إلى الله.
– وفي كل حرفٍ.. بصمةُ روحٍ نقية.
كان النص ضمن عشرات النصوص العربية الفصيحة التي اخترناها كلجنة كلفتها وزارة الثقافة للاختيار .. كان الى جانبي محمد عبده والدكتور عيد اليحي والاستاذ سعد الخشرمي واخرين .. كانت”بوابة الريح ” كنص من نصيب المبدع الراحل طاهر حسين ليلحنه وقد لحنه اللحن الاول بالفعل ..
رفض محمد عبده اللحنَ الأول للقصيدة رغم جماله ، وقال: “هذا النص يستحق أن يُرفَع إلى السماء”، كان يؤكد أن الشعر الحقيقي يُولَد مرتين: مرةً عندما يكتبه الشاعر، ومرةً عندما يغنيه من يفهم نبضه ويعيه .

في بيتي على طرف البادية الوسطى في صحراء عمّان، حين كنتُ أدرس الدكتوراه، اواخر التسعينات وما بعدها .. كان الثبيتي ضيفاً دائما على قلبي . يأتي مع الفجرين: فجر الغروب حين يصل، وفجر الشروق حين يغادر. بصحبته، كان الشاهق *عبدالله الصيخان* يلقي قصائدَ كالطيور، و حبيب الزيودي (رحمه الله) ينسج خيوطَ الدعابات.
كان الثبيتي غفر الله لقلبه يأتي في طقس دافيء ويرحل وقد زمهر الجو. وكنت احرص ونحن على جال النار في كل ليلة على اعارته معطفا ليدفئه وكان يغادر به لكن لايعود به .
في إحدى الليالي، بينما كنا نعيد روايةَ “المعاطف المنسية في الفندق ” قال الثبيتي مبتسماً: *”المعاطفُ أمانةٌ عندي.. لكن الكلمات أمانة عند الله “.

زارني في ذلك البيت العمّاني عمالقةٌ شعر مثل *جوزيف حرب • و•عبدالرزاق عبدالواحد • و *سميح القاسم*، وغيرهم.. لكن حضور الثبيتي كان مختلفاً. كأنه يحمل في جيبه حفنةً من تراب الطائف، ويوزعها عطراً اينما حل .
صحيح انه رحل ، لكنني كلما سمعتُ قصيدةً له، أتخيله جالساً في “مقهى الشعراء” السماوي، يهمس لقيس بن الملوح والمتنبي: *”تعالوا.. أُريكُم كيف نكتب الحبَّ بلغة الروح “*.

قد يبادرني احدهم بسؤال : لماذا نكتب عن الراحلين؟

نكتب لأننا نبحث عن ذواتنا في مرآة ذكراهم.
الثبيتي لم يكن شاعراً عادياً، بل كان ظاهرةً.. ظاهرة تُعلّمنا أن الجمالَ سلاحٌ أقوى من النسيان، وأن الكلمةَ الصادقةَ جسرٌ بين الموت والخلود.
اليوم، حين أرى اسمَه على لوحة شارعٍ في الطائف، أتذكّر بعض عباراته : “لا تخف.. الشعراء الحقيقيون لا يغيبون، إنما يختفون وراء سطورهم” .

رحمك الله يا ابا يوسف. وغفر لقلبك واثاب روحك.

يا الثبيتي ..
كل ما انسى
تشتعل جدران بيتي ،
بالغلا والذكريات .

مانستك الأمسيات .

المشب اللي على جاله طفينا الليل ..
وأحرقنا غثانا
يشتكي ثقل الوجيه ، وقلة الطلات .

فارغ بيت الشَعر لليوم رغم الناس ..
يسأل ..
ولا جواب .. إلا السكات .

الف رِجل ٍ عقب رجلك مرّته ..
لكن مثل ذلك الكبير المنهمر ..
هيهات .

بث مباشر SEYAHA FM 102.3 يبث الآن