Skip to main content

د. صالح الشادي

ذات يوم من ايام عام 2002، أثناء إقامتي في منزلي الريفي في الاردن ، أيقظني هاتف حارس المنزل من قيلولتي ليخبرني بأن صديقًا لي سعوديًا يود لقائي.
فوجئت بالصديق الحبيب الاستاذ ناصر القصبي بجوار منزلي برفقته فريق عمل تلفزيوني ضم المخرج الراحل عبدالخالق الغانم، و عبدالله السدحان، وبشير غنيم، والراحل فهد الحيان، وغيرهم . بالإضافة إلى مجموعة من الممثلين وفريق الإنتاج وقد تحلقوا حول قاطرة قطار سياحي .

كان اللقاء مفاجأة سعيدة للجميع بعد غياب دام سنوات. أخبرني القصبي أنه كان يصور في عمّان منذ أكثر من شهر، وكان خلال هذه الفترة يبحث عن رقم هاتفي أو عن طريقة للتواصل معي دون جدوى، حتى قادته الصدفة إلى موقع منزلي!
قال لي: “كنا نبحث عن مكان لتصوير مشهد في قطار لحلقة بعنوان *قطار الشرق السريع*، فاتفقنا مع الشركة المشغلة لسكة قطار الحجاز واستأجرنا قاطرة في قطار انطلق بنا نحو الصحراء وتوقف في عدة نقاط، ولم يكن يعجب المخرج أي منها. استمرينا في التقدم حتى وصلنا إلى موقع ملاصق لمنزلك . وعندما احتجنا لبعض المستلزمات، سألنا بعض الرعيان عن صاحب المنزل، فقيل لنا إنه لسعودي يدعى صالح الشادي”.

كان الأمر مدهشًا حقًا: أن تبحث عن شخص لأسابيع، ثم تجده بالصدفة في قلب الصحراء! .. قضينا يومًا جميلًا صورت خلاله بعض المشاهد ، ثم جمعنا مساءً عشاءً بيتيًا في حديقة المنزل، تبادلنا خلاله الأحاديث والذكريات.

كنا نلتقي معظم المساءات بعد انتهاء ناصر من التصوير. نتحدث نتسامر .. وخلال تلك الفترة، أهداني مجموعة من حلقات مسلسل *طاش* التي لم تُبث بسبب حذف بعض المشاهد الحادة التي اعترضت عليها الرقابة. شاهدت أعمالًا رائعة تناولت قضايا اجتماعية وثقافية وتربوية عاشها المجتمع العربي، بأسلوب هادف جمع بين الترفيه والتنوير، ولم يكن الهدف منها مجرد تسلية المشاهدين، بل طرح حلولًا واقعية لإصلاح مفاهيم كلنت تحتاج إلى تصويب.

أتذكر جيدًا معاناة رواد وطواقم الإنتاج الفني منذ التسعينيات، من نقص التمويل وتعقيدات التصاريح والنظرة المجتمعية لبعض المهن، خاصة مسألة ظهور العنصر النسائي في بعض الأعمال. ورغم كل التحديات، كانت الأعمال تُنجَز، حتى لو اضطر الفريق للسفر خارج الوطن للتصوير في مدن مثل القاهرة ودمشق والمنامة، حيث البيئة الإبداعية أكثر مرونة.

الأهم أن تلك الأعمال —رغم بساطة إمكانياتها—لم تتهاون في طرح القضايا الجادة، بل وضعت يدها على مواطن الخلل وقدمت حلولًا ذكية، مع تجنب النصوص الهشة أو السطحية. خذ مثالًا حلقة *طاش* قطار الشرق السريع التي تناولت عائلة من الرياض اضطرت للسفر بالقطار إلى المنطقة الشرقية بسبب عدم توفر رحلات طيران للحج، ثم الانتقال جويًا إلى جدة. كانت الحلقة رمزًا لروح المبادرة والمرونة في مواجهة الصعوبات.

لا شك أن القصبي ومجايليه هم رواد الدراما السعودية الحقيقية الذين فتحوا الأبواب لجيل جديد بأساليبهم المبتكرة.
أما الدراما الحالية فهي امتداد لإرث هؤلاء الرواد من مسرح وتلفزيون.

كان من جهود الجميل الاستاذ ناصر الاعلامية في خدمة سياحة الوطن، مشروعه *الرمل إن حكى*، الذي قدّم أكثر من 150 لقطة لصحراء الربع الخالي—صورها جوًا وبرًا على مدار أسابيع— وقدمها لي لأشرحها بعبارات مختصرة تعرّف أبناء الوطن بكنوزه وتاريخه.. وغيره وغيره .
الحديث يطول ولكن تبقى الإبداعات الفنية لرواد الجمال امثال ناصر شاهدة على حب الوطن بمفهومه الاسمى وعلى عشق الجمال والتحدي، ولن تنتهي القصص مادام هناك من يحملون شغفًا لتقديم الأفضل.

بث مباشر SEYAHA FM 102.3 يبث الآن